الأحد، 12 فبراير 2012

أزمة قلة الأدب ..بقلم : فهمي هويدي

English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

حين روعنا الدم الذى سال فى بورسعيد عقب المباراة البائسة بين فريقى الأهلى والمصرى، فإننا لم نتوقف عند كَمْ البذاءات التى تداولها مشجعو الفريقين منذ بداية المباراة. وفى أجواء الصدمة التى أصابتنا جراء العنف الذى حدث والضحايا الذين سقطوا، فإن ملف البذاءات والألفاظ الفاحشة التى تطايرت فى فضاء الملعب ظل مغلقا ولم يتطرق إليه أحد. وإذ أفهم أن يستأثر بالاهتمام موضوع الضحايا وملابسات الكارثة والموقف المريب لأجهزة الشرطة، باعتبارها من العناوين العاجلة التى يتعين التعامل معها، إلا أن العاجل لا يلغى ما هو ضرورى، والبذاءات التى يتم تداولها فى الملاعب من ذلك الجنس الأخير، باعتبارها تجسيدا للتفرقة المحزنة بين الرياضة وبين الأخلاق.

سألت من أعرف من خبراء الرياضة: لماذا تنهى المباراة إذا تم التراشق بالطوب والزجاجات الفارغة، ولا توقف إذا جرى التراشق بالألفاظ البذيئة والفاحشة؟ ــ فى الرد قيل لى إن ذلك كان يحدث فى الماضى، ولكنى ضغط الرأى العام بات قويا وانتشار ظاهرة التراشق اللفظى البذىء والجارح صار واسعا بحيث إن حكم المباراة أصبح يخشى أن يتعرض للاعتداء والإهانة إذا ما أوقف المباراة. كذلك فإن قيادات أجهزة الشرطة الذين توكل إليهم عملية «تأمين» المباريات، كانوا ينصحون بالتساهل مع مثل تلك الممارسات، تجنبا لحدوث ما هو أسوأ. قيل لى أيضا إن البرامج الرياضية التى تبثها قنوات التليفزيون اعتادت على أن تشحن الناس بثقافة التعصب للنوادى، دون أن تعنى بالجانب الأخلاقى للرياضة. أضاف هؤلاء أن ثورة الاتصال واتساع نطاق التعامل مع شبكة التواصل الاجتماعى من العوامل التى فتحت الأبواب واسعة لكل أشكال التعبير المهذب وغير المهذب، الأمر الذى أدى إلى الترويج لأنماط من الثقافة الهابطة التى لا تخضع لأى نوع من التنقية أو التوجيه الرشيد. أضاف آخرون أن النظام السابق الذى ساءت سمعته وأصابه الفشل فى مجالات التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وجد فى الرياضة فرصته الوحيدة لإثبات التفوق وادعاء الإنجاز. لذلك فإنه أطلق لها العنان واستثناها من أى ضبط أو ربط. شجعه على ذلك انها كانت وسيلة لإلهاء الناس وتعويضهم عن إحباطاتهم فى عالم السياسة. كأنما أراد النظام السابق أن يشغلهم بالرياضة لكى يتولى من جانبه شئون السياسة والاقتصاد والإدارة.

قد تكون هذه التفسيرات صحيحة، لكن الأصح فى رأيى أن ما يحدث فى ملاعب كرة القدم من بذاءات من جانب الجمهور ــ ومن بعض اللاعبين أحيانا ــ هو انعكاس لما يحدث فى الشارع، الذى أصبحنا نسمع فيه الكثير مما يجرح الأذن ويخدش الحياء. وكل الذى حدث أن الملاعب توفر فرصة اجتماع عدد كبير من الموجودين فى الشارع. وأن المباريات تشيع بينهم حالة من الانفعال يتم التعبير عنها بوسائل مختلفة فى التشجيع أو الهجاء والتقريع.

وإذا جاز لى أن أذهب إلى أبعد، فلعلى أقول إن الشارع المصرى يجسد أزمة التربية فى البلد. إذ المعلوم أن المدرسة لم تعد تربى والإعلام يدغدغ المشاعر ولا يهذبها، والأهل ما عادوا مكترثين بتربية الأبناء. فهم إما مشغولون طول اليوم للسعى وراء الرزق، أو أنهم يستثمرن أوقات فراغهم فى متابعة التليفزيون. وإلى جانب أزمة التربية فهناك أيضا أزمة النموذج الذى تحتذيه الأجيال الجديدة. وحينما تكشفت فضائح النظام السابق بعد الثورة فإننا عرفنا أى نوعية من الناس كانت تتصدر الواجهات وتجسد المثل العليا التى سادت المجتمع طوال الثلاثين سنة الماضية.

فى كتابه «طبائع الاستبداد»، ربط مؤلفه عبدالرحمن الكواكبى بين الاستبداد وتدهور الأخلاق وانحطاطها فى المجتمع. وقال إنه يؤثر على الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها.. وإن أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب ولا شرفا غير معرض للإهانة.. وأقل ما يؤثره الاستبداد فى أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق.. وأنه يعين الأشرار على إجراء غَىّْ نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية.

لست أشك فى أن لدى أهل الاختصاص ما يقولونه فى تحرير المشكلة وكيفية علاجها، وهو ما ينبغى أن ننصت إليه ونسترشد به. إلا أن أكثر ما يهمنى فى اللحظة الراهنة هو الاعتراف بأن الشارع فى مصر إلى إعادة تربية، وإن بذاءات اللسان والكلمات الجارحة ليست شجاعة ولا هى فضيلة، ولكنها من قبيل قلة الأدب التى ينبغى استنكارها فى الشارع قبل مباريات كرة القدم

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...